إرضاء الناس غاية مستحيلة

عنوان المقال: إرضاء الناس غاية مستحيلة

منذ أقدم العصور، شكّل التفاعل الإنساني محورًا رئيسيًا في تشكيل المجتمعات والسلوكيات الفردية. وبينما يسعى الإنسان بطبيعته إلى القبول الاجتماعي والتقدير، نشأت مقولة خالدة اختزلت واحدة من أعمق الحقائق النفسية والاجتماعية: “إرضاء الناس غاية لا تُدرك”. هذه العبارة التي توارثتها الأجيال ليست مجرد حكمة شعبية، بل تعبير دقيق عن طبيعة العلاقات الإنسانية المعقدة والمتغيرة، وتعكس حدود القدرة البشرية على تلبية توقعات الآخرين على اختلاف أذواقهم، ومواقفهم، وثقافاتهم، وتجاربهم.

الأصل الفلسفي والاجتماعي للعبارة

تشير العبارة إلى أن السعي لإرضاء الجميع أمر مستحيل، نظرًا لتعدد الرغبات والآراء وتفاوت معايير الحكم بين الناس. فالناس ليسوا نسخة واحدة، بل مجموعات متنوعة تختلف خلفياتهم الثقافية والدينية والاجتماعية والنفسية، مما يجعل من الاستحالة تلبية رغبات الجميع أو تحقيق رضاهم في آنٍ واحد.

من منظور الفلسفة الأخلاقية، وُجدت هذه الفكرة لدى كبار الفلاسفة، إذ رأى “أفلاطون” أن السعي لإرضاء الجماعة يُفضي أحيانًا إلى التنازل عن القيم الذاتية، كما أشار “كانط” إلى أن الفعل الأخلاقي لا يجب أن يُوجَّه لإرضاء الآخرين بل لينبع من الواجب الأخلاقي النابع من الذات. أما في التراث الإسلامي، فقد وردت إشارات تدعم هذا المبدأ، منها قول الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “من راقب الناس مات همًّا”، وهي مقولة تعزز مضمون العبارة نفسها.

الضغط النفسي الناتج عن السعي وراء رضا الجميع

السعي المستمر لإرضاء الآخرين يولّد ضغطًا نفسيًا خانقًا، يدفع الفرد إلى ارتداء أقنعة متعددة تتغير حسب الموقف والأشخاص. هذه الحالة تزرع اضطرابًا داخليًا بين ما يريده الإنسان فعلًا وما يفرضه عليه حرصه على رضا الآخرين، مما يضعف تقديره لذاته، ويجعله فريسة للقلق والتوتر والاكتئاب.

غالبًا ما يتحول هذا السلوك إلى ما يُعرف في علم النفس باضطراب “الشخصية المُرضِية” (People-pleasing Personality)، وهي حالة يعيش فيها الإنسان في تبعية لتوقعات الآخرين، ويفقد القدرة على اتخاذ قرارات شخصية حاسمة دون القلق من آراء الناس. هذه الحالة تؤدي إلى الانهاك العقلي، والتراجع المهني، وتدمير العلاقات الحقيقية القائمة على الصدق والحرية والاحترام المتبادل.

التناقض في توقعات الناس

من أبرز أسباب استحالة إرضاء الجميع هو التناقض الجذري بين ما يتوقعه الأشخاص المختلفون من الفرد. فقد يكون الصمت في موقف معين علامة على الحكمة بالنسبة لشخص ما، بينما يُفسَّر على أنه ضعف أو عدم مسؤولية من طرف آخر. وقد يُنظر إلى الجرأة على أنها شجاعة من فئة معينة، بينما تُعتبر وقاحة لدى أخرى.

هذا التناقض لا يقتصر على المسائل السلوكية بل يتعداها إلى القيم. فمثلًا، إنسان يدافع عن مبدأ الحرية قد يُقدَّر في مجتمع ويُحارَب في آخر. هذه المفارقات تؤكد أن كل سلوك يصدر عن الإنسان سيقابله رضا من البعض وسخط من البعض الآخر، ما يعزز استحالة تحقيق إجماع حول شخصية أو موقف أو قرار.

تجارب واقعية تثبت استحالة الإرضاء

عبر التاريخ، تعرض كبار المصلحين والمفكرين والأنبياء إلى النقد، رغم تضحياتهم ومبادئهم النبيلة. النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو أصدق الناس وأطهرهم خُلُقًا، تعرّض للاتهام من قومه، ووُصِف بالساحر والمجنون والكاهن. والمسيح عليه السلام لقي مقاومة شديدة من بني قومه رغم دعوته إلى المحبة والسلام. وسقراط، مؤسس الفلسفة الأخلاقية الغربية، قُتل بسبب أفكاره، على الرغم من سعيه لتنوير عقول الناس.

هذه الأمثلة تُبرهن أن استحالة إرضاء الناس لا تعني فشل صاحب المبادئ، بل تعكس طبيعة البشر الذين يختلفون في تفسير الأمور واستقبالها، حتى وإن كانت صادرة عن أنبل النفوس.

إرضاء النفس أولى من إرضاء الآخرين

تكمن الحكمة في التوازن بين احترام آراء الآخرين والتمسك بالقيم الذاتية. فالإنسان الذي يعيش لإرضاء الآخرين يفقد ذاته، بينما الذي يُعلي من شأن قيمه الشخصية يسترد احترامه لنفسه، ويعيش بهدوء واتزان. لا يعني ذلك الانغلاق عن المجتمع أو العزلة، بل تبني المواقف التي تنبع من قناعات داخلية، وليست مبنية فقط على استحسان الآخرين.

النجاح الحقيقي لا يُقاس بعدد المصفقين، بل بمدى التناسق بين ما نفعله وما نؤمن به. والمقياس الأصدق هو ما إذا كنا ننام بضمير مرتاح بعد اتخاذ قراراتنا، لا ما إذا نالت إعجاب الجميع.

المعايير المتغيرة للرضا

يرتبط رضا الناس بالسياقات الاجتماعية والثقافية والسياسية المتغيرة باستمرار. فما يُعتبر مقبولًا اليوم قد يُرفض غدًا، وما يُنتقد الآن قد يُشاد به لاحقًا. هذه المعايير المتحولة تؤكد مجددًا أن السعي نحو رضا الآخرين طريق غير ثابت، ويمهد لصراعات داخلية لا نهاية لها.

هذا التغير الدائم في المعايير يجعل من الاتزان الداخلي والوعي الذاتي أساسًا لعيش حياة سليمة. فكلما كان الإنسان ثابتًا على قِيَمه، كلما أصبح أقل تأثرًا بموجات الرضا والسخط التي يطلقها الآخرون، وأكثر قدرة على المضي في طريقه بثقة واستقلال.

التحرر من عبودية نظرة الآخرين

التحرر من محاولة إرضاء الجميع لا يعني التمرد أو التكبر، بل هو علامة على النضج الفكري والنفسي. إنه وعي بأن الحياة أقصر من أن تُهدر في اللهاث خلف آراء لا يمكن السيطرة عليها. ويتحقق هذا التحرر حين يدرك الإنسان أن القبول الذاتي، والعيش وفق مبادئ صادقة، أكثر أهمية من التصفيق الجماهيري.

التحرر من تلك العبودية يبدأ بخطوة داخلية: أن تؤمن بأنك لست بحاجة إلى إثبات شيء لأحد، وأن قيمتك ليست مرتبطة بعدد المعجبين بك، بل بما تحققه من انسجام بين قناعاتك وسلوكك.

القيادة والرضا الجماهيري

أثبتت التجارب السياسية والإدارية أن القادة الذين يحاولون إرضاء الجميع يفشلون غالبًا في اتخاذ قرارات حاسمة. أما أولئك الذين يُدركون أن القيادة تعني أحيانًا اتخاذ قرارات غير شعبية في سبيل الصالح العام، فإنهم يتركون أثرًا حقيقيًا ومستدامًا.

رؤساء دول، ومديرو مؤسسات، وقادة حركات اجتماعية، جميعهم يواجهون لحظات يتوجب فيها اتخاذ قرارات لا تحظى بقبول فوري، لكنها تنبع من رؤية بعيدة المدى ومسؤولية ناضجة. هذه المواقف تؤكد أن الرضا الجماهيري ليس دائمًا مقياسًا للصواب.

الجدول التالي يوضح مقارنة بين صفات من يسعى لإرضاء الآخرين ومن يسعى لتحقيق ذاته:

الخلاصة: المعادلة الأخلاقية للعيش بسلام

العيش وفق مبدأ “إرضاء الناس غاية لا تُدرك” لا يعني الانسلاخ من المجتمع، بل يعني التحرر من التبعية النفسية لرأي الآخرين. إنه دعوة للعيش بنزاهة داخلية، لتبني قرارات نابعة من العقل والضمير، لا من الرغبة في التصفيق والقبول.

الإنسان الذي يعي هذه الحقيقة لا يلهث خلف رضا الآخرين، بل يسعى لبناء منظومة قيمية داخلية تجعله يواجه الحياة بثقة، ويقبل اختلاف الآراء دون أن يهتز. وفي النهاية، يبقى أن نعيش بكرامة، حتى وإن لم نُرضِ الجميع.

المراجع:

1. ديباك تشوبرا، القوانين الروحية السبعة للنجاح، دار الخيال، 2012.

2. إريك فروم، الخوف من الحرية، ترجمة: كامل يوسف حسين، دار المعرفة، بيروت.